عندما يأبى القدر

      عندما يأبى القدر







 حياتنا لا تحتوي تلك القصص التي تنتهي نهايات سعيدة، بل غالبا ما تكون النهايات تعيسة ومأساويه وقد تجعل القلوب تقطر دماً عندما يتدخل القدر ليغير التواريخ ويعيد ترتيب الأيام، وعندما يضع الآخرين أيديهم  داخل أحاسيسنا لتقطر قلوبنا دماً، وليجعلوا العيون تذرف الدموع حرقةً مريرة، ويشعلوا نيران الحزن التي لا يطفئها مرور الوقت، تلك هي الحكاية، حكاية قد لا تروق في النهاية، لأنها انتهت بكل ما تحمل المعاني الحزينة، ومن هنا كانت البداية. 
كان يوماً حاراً من أيام الصيف الساخنة، أشعه الشمس كانت حارقة وعلى شاطئ البحر المزدحم بدأت الحكاية، كان الفتيان والفتيات يتراشقون الماء المالح على شاطئ البحر، كانوا يستمتعون بنهاية الدراسة.
       كيف لا، وبعضهم لم يرى النور مند عام وهو يئن تحت وطأة الكتب، أياما تمر بدون اللهو لمن هو في مثل سنهم، فالامتحانات دائما ما تعكر صفوهم ، كان يوما مميزا وسعيدا للجميع، لم ينغص عليهم إلا بعض الأوامر كالعادة من المشرفين على رحلتهم ومحاولاتهم أن يفصلوا الأولاد عن البنات، لكنهم لم ولن يتمكنوا من ذلك فالنشاط يدب والفتيان قد أصبحوا مثل سيلٍ جارف، كيف لا والآنسات يملأن المكان .
    وسط هدا الزحام كان هناك وفي تلك الزاوية كان يجلس وحيداً، فلم تكن تبدوا عليه علامات السعادة ولم يحرك ساكنا مند وصولهم، فكما هو معروف عنه انه قليل الكلام وقليل النشاط، دائما ما ينزوي للبحت عن الراحة والسكون، فالصمت يكون جنته كما يقول لأصدقائه دائماً، يعتبره الكثير من زملائه غريب الأطوار، فهم لا يعلمون متى يخرج من صمته ليتكلم، أو متى يخرج عن وقاره ليعرض طيشا طالما آثار دهشتهم، ولكن متى يفيق ومتى يعود للسبات؟ كانت تلك أيضا مشكلةً يتساءل عنها الجميع طيلة فتره دراستهم معاً وألان وبعد سنوات معا في نفس المكان عجز الجميع عن فك هدا اللغز وقريبا سيتفرق الجميع فلكلٍ منهم طموحٌ سيتبعه.
       بطلنا اليوم شابٌ في الثامنة عشرة، اتسمت حياته بالاعتدال في كلامه وفي لباسه لكنه كان مميزا بذكائه ومحط أنظار وإعجاب الجميع، ولطالما كان الجميع يتسابقون ليبقوه خلفهم لكنهم لم يستطيعوا إلا أن يكونوا خلفه، شديدٌ وحادُ الطباع إذا غضب قليل الكلام في هدوئه ، متسامحٌ بحدود، لكنه كان يعرض قسوة مخيفة في أحيان كثيرة، ولكن بين كل هذا كان هناك سراً لا يعلمه أحد ، كان يحمل بين حناياه قلبا كبيراً وطفلاً رضيعاً يبكي بجنون متسائلا عن يدٍ رقيقه ثربت على كتفه بحنان دائما، كان محبوبا من الجميع ولم يكن على عدواه مع أحد لأنه يعتذر سريعاً إذا أخطأ، وكانت أخلاقه مثالاً يحتدى به.
     لقد حل منتصف النهار، ولازال الحال على الشاطئ كما كان بداية النهار وكأن الوقت لم يمر لولا خطوات صديقنا مبتعدا، كان يحاول أن يشعل سيجارةً بعيدا عن أعين المشرفين حتى لا يعاقب على جريمةٍ لا تغتفر، وعار قد لا يمحوه الزمان ، كانت تلك صفةً غريبةً لشخص مثله، فهوا أيضاً لا يعرف كيف ولما تعلم هده العادة التي كان يمقتها وبشده.
       عاد سريعا لمكانه بعدما أكمل مهمته السرية، وهناك في الزحام كان هناك من يرمقه بنضرات المراقب جيئةً وذهابا، إنها ريم فتاه في التامنه عشره و كانت تدرس معه في نفس المكان مند سنوات، ويبدوا أن القدر اختار هدا اليوم ليقول كلمته وليخط لها ما كانت تحلم به، فهي تشعر بجرأة لم تعهدها، وكانت مستعدة أن تصرخ غير مهتمة بكل الحاضرين لتعبر له عما يجول في خاطرها مند سنين، ولتطفي ما يلتهب بداخلها رغم أنها لا تعرف ما هي تلك المشاعر التي تختلجها لمجرد أن تراه ولا تعلم ما تلك الرعشات التي تصيب أناملها ولا سبب التسارع الرهيب في دقات قلبها الصغير، لكنها أرادت أن تقول دون تفكير في ما ستقول ، عندها تحركت نحوه وهي تحمل كوبا من ماء البحر ورائها ، كان تحاول إخفاء توترها من رده فعله عن ما تنوي فعله، فهده الكتله الهامدة لن يوقفها شئ إن غضبت، ولكنها كانت تريد أن تضع النهاية، فإما أن تكون نهاية البداية، أو أن تكون بداية لما تحس بأنه سينير حياتها أملاً وسعادة .
        لازالت تسير بخطوات مترددة على الرمل،  حتى وقفت أمامه تكاد تذوب خجلاً، وكانت أنفاسها مسموعة،ً فقلبها ازدادت دقاته تاركاً إياها في لهاث محاولهً أن تقول شيئا، وما أن أقام رأسه ليرى من هدا الضيف الذي حل ليقطع خلوته وبلا تردد، وبدون أن ينطلق اللسان ليقول شيئاً، أغرقته بماء البحر المخبأ ورائها وهي تنظر له بعينيها الجميلتين اللتان كانتا تفيضان خوفا وشوقا وحبا وأملاً وقلقاً، لكنهما لازالتا يملكان من السحر ما جعله لا ينبس ببنت شفه، وكأنه يراها لأول مره حتى أنه لم يشعر بأنه قد تبلل بالماء فهناك ما هو أهم.                        يوجد شيئاً ما قد تحرك بداخله، وكأنه سم يجري في عروقه ويمنعه من الكلام، لا بل يمنعه من الحراك، لقد أصيب بحاله من الذهول فتلك العينان قد اخترقتا جدار الصمت بداخله لقد قالتا كل الكلام الذي يمكن أن يقال، ولكن بدون أن تكون هناك حروف وكلمات بدون جمل ورسميات، بدون تردد أو خوف بدون تصنع أو تزييف يومها لم يكن لقواميس اللغة مكان، ولم تعد الكلمات تعني الكثير، فتلك النضرات قد قالتا كل ما كان يمكن أن يقال.
       أصبح الوقت يمر سريعا وهما ينظران كل منهما للآخر، بدون كلام أو حراك وكأن الموت قد حل بالاثنين، كان موج البحر الهائج وصراخ الفتيه هنا وهناك، الازدحام والشمس المحرقة، كان كل شئ وكأنه أضغاث أحلام، فليس هنا غيرهما وكأن العالم قد تجمد من حولهما وكان الوقت قد توقف ليتيح لهما لحظه صامته، لتبقى القلوب هي الوحيدة التي تنبض بالحياة، تتبادل الدقات، وتستعين بالأعين لترسل النظرات، وتحكي الحكاية، بدون بداية وبدون نهاية.
     اليوم طرق ضيفٌ جديد أبواب المملكة، ضيفٌ لا يطلب الإذن للدخول، ولكنه يطرق الأبواب معلنا قدومه، متخطياً كل الحواجز، مسطراً الحان جديدة تختلف عن كل الألحان فهي تترك في النفس نشوه وتغمر الروح بسعادة تفوق التصور.
اليوم تغير التاريخ، متلاعبا في السنوات والأيام، وكأنها كانت البداية وكأنه اليوم قد ولد فهو لم يعد يعي ما حوله، وكأنه طفلٌ يحبو ويحاول نطق كلماته الأولى، فلسانه لم يعرف ما هي الحروف التي ستتجمع لتقول الكلمة التي أراد أن يقولها لتشق الصمت الذي خيم على المكان لكنها كانت (ما الذي تفعلانه!) من احد الطفيليين القادمين من هناك، وكأنها كان سهماً شق صدره لتخرج الدماء معلنةً انتهاء الحياة، نعم، لقد انتهت تلك اللحظة، وبدون سابق إنذار، لكنه لم يقل شيئاً، وانسحبت ريم على عجل لتخفي ارتباكها عن دخيلنا الذي افسد البهجة، وما أثقل هذا الضيف الذي أتى بدون دعوة، لقد تمنى أن يقوم له ويشبعه ضرباُ حتى تنطفئ تلك الشعلة التي اشتعلت في قلبه غيضاً.
      لم يعد للمكان أي اعتبار، ولم يعد للزمان من معنى حتى انه لم يشعر بأن الشمس قد غربت وان الرحيل قد حان، استيقظ من سكونه على نداء معلميه للركوب عائدين أدراجهم ، كان يرمقها وترمقه، يسترق النظرات خلسةً وهي تلملم أغراضها، ولم يتحرك حتى توارت عن الأنظار في زحام زميلاتها المغادرات.
      نعم اليوم ميلاد جديد ويوم جديد سيأخذ الراية، ليصبح هو البداية وما قبله لا يعني اكتر من كونها أياماً بلا قيمه، مرت مرور الكرام ولم تحتوتي طيلة سنواتها على لحظةٍ مثل هذه اللحظات التي تعادل ما عاشه وما سيعيشه لاحقاًَ.
      عندما تحركت الحافلات لم يكن يحس بأنها تسير على الطريق، بل كانت وكأنها آلة الزمان، وكأن صديقنا مسافرٌ عبر الزمان، وكأن الوقت اليوم قد حان، لينتقل إلي زمان لم يعرفه، لم يستطع التوقف عن التفكير طوال الطريق في ذالك الملاك الذي نثر حوله اليوم مشاعراً لم يعرفها، وأذاقه إحساساً لم يسبق وان عاشه، كانت تلك المياه المالحة و كأنها قطرات ندىً صافية، تنساب على براعم الورد عند الفجر وتعكس لون السماء في صفائها.
       تلك المدرسة التي كان يقصدها منذ ثلاث سنوات، هي المحطة، ليتفرق الجميع باتجاه منازلهم، لكنه ظل واقفا ينظر الي ذالك المبني الذي كان يخفى الجوهرة، لقد أحس بأنه يريد أن يحتضن تلك المدرسة من فرط شوقه، لقد ألقى بالحقيبة ورائه و تركها تتأرجح على ظهره وهو يعدو باتجاه منزله، بعد أن عاد الجميع، ورحلت ريم مع والدها وهي ترمقه بتلك النظرات الساحرة، كانت عينها تحملان صفاءًً يعرض حشمةً ورقة، لكنها كانت بالنسبة له قوساً بيد صياد ماهر، لا تخطى سهامه الفريسة، فقد خر صريعا من تلك السهام التي اخترقت قلبه الرقيق، رحلت ريم بعد أن أبّنت ذلك الشاب لأنه كان قد مات فعلاً، لتعلن عن ميلاد جديد لقلبٍ ينبض حبا ويحمل جسماً يغطيه،ويا له من مولدٍ سيحمل ألماً وحزناً يشق حملهما معاً.
       طرق الباب ودخل على عجل وتلقى السؤال عن يومه من أمه،  كم تمنى أن يصف لها كيف كان ذلك اليوم، ويصف لها ذلك الإحساس، لكنه لم يستطيع، واكتفى بإبداء ارتياحه وسعادته، وكيف لا وهو وافق على الذهاب في نهاية المطاف بعد رفضه الذهاب وأحس بأنه وبعدوله عن رفضه قد اتخذ أهم القرارات في حياته .
        اليوم تغيرت الأماكن وتغيرت الوجوه، لا بل تغيرت الحياة فها هو هدا البائس المتجهم يملك ابتسامه رغم صغرها واحتشامها، إلا أنها لم تغادر وجهه من تلك اللحظة وحتى أكمل ما عليه وجاء لينام فلازال مبتسما وعيناه تتراقصان فرحاً، كانت تلك الليلة من أجمل الليالي التي قضاها متقلبا يحاول أن ينام، لكنه يحس بسعادة لم تترك للنوم من مكان وكان عقله ياخده الي هناك، حيت توجد تلك الساحرة التي رمته بسهام العشق وتركته هنا قتيلا مضرجا على أبواب السعادة.
     لم تكن الليلة طويلة كما أنها لم تكن قصيرة، فالوقت لم يعد في الحسبان، ولم يعد النهار يختلف عن الليل، نعم لقد توقف العقل عن التفكير، وعم الشلل جسمه، لم يعد هناك سوى شفاه ترسم ابتسامه، وعينان تفيضان حباً، وقلبا يكاد يحطم الأضلع ليخرج ويقول أنا هنا، إني انبض، إني اعشق، إني اليوم قد أحببت، غيروا تاريخ ميلادي، وافتحوا الأبواب لي فانا قد فردت الجناحين وتجهزت لأحلق عاليا في السماء .
       لقد أتى الصباح ولكن ما فائدة الصباح؟ فالعام قد انتهى بالأمس ولن يأتي اليوم احدٌ ليمر من بوابه المدرسة التي قضى يومه واقفاً أمامها.  سعادة بما كان بالأمس تختلط بشعور الخيبة اليوم مع بعض الندم على ما مضى من عمره دون أن يتذوق أو يشعر بلحظات كانت مند وقت قريب تفاهات من وجهه نظره، لكنه اليوم ودون أن يملك الخيار يغوص في تفاهات الماضي مع أروع أحاسيس الحاضر، فقد تغيرت الموازين ومن يسمع ليس كمن يرى ، عاد الي منزله بخيبة الأمل بعد أن قضى نهاره ينتظر المستحيل، ولكنه كان عازماً ألا يترك الأيام تقضي على تلك المشاعر، ولن تبعده الأيام ولا المسافات ولن يمنعه كل ما أمامه من أن يطلق لقلبه العنان محلقاً في هده السماء الجديدة وان يفتح جناحيه في الأفق، عندها قرر أن يخط الرسالة الأولى لتكون شاهداً على مولده من جديد.
       خيم الليل سريعا ليجلس وحده يخط بيده كلمات لم يعهدها ولا يعلم من أين تخرج، لقد كانت الكلمات تتبعثر وحدها هنا وهناك في تناغم الألحان كسربٍ محلقٍ أتناء الغروب، كانت الفرحة تملأ المكان، أحلام وآمال، شوق وحنين، ولهفه المشتاق لا ينغصها ألا التفكير في الطريقة لتصل الرسالة لمن لم تفارق عيناها مخيلته، ولكن توالت خيبات الأمل مع كل المحاولات .
    بيتُ صغير وجميل على ضفة الوادي، وفي غرفةٍ صغيرة، كان الضوء لازال مشتعلاً رغم تأخر الليل، كانت ريم لم تستطيع النوم بعد، لقد اختلطت دموع الحزن بابتسامة الفرح وهي تختنق بغصةٍ كانت تؤرق ليلتها، فسعادتها لا توصف لأنها استطاعت أخيراً أن تمتلك الجرأة لتبوح له بما يجول في قلبها دون كلام، لكن حرقة الفراق كانت أقوى من سعادتها لتتسبب في سيل من الدموع وانين البكاء بين الفينة والأخرى، فمن سهرت في حبة الليالي الطوال تتلهف ليوم تقول له أحبك، قد لا تستطيع رؤيته مجدداً حتى إن التفكير في أنها قد لا تحظى بفرصه أخرى تكاد تفقدها الوعي أحياناً من شدة الخوف، كانت كلما ذهبت إلى النوم يأتيها في منامها
يمد لها يده ليحملها معه إلى عالم الأحلام الجميل.
   كانت ريم البنت الصغرى في عائلة مع أخوين يكبرانها وأمها و والدها وجدتها التي تقيم معهم، كانت الفتاه المدللة من أمها وجدتها وأخوتها، ولكن والدها كان رجلاً قاسياً يحمل وجهه علامات الشحوب والشدة طوال الوقت، كان قل ما يحنو عليها بكلمات رقيقة، ولكنه كان بدون شك يحبها فهي أبنته الوحيدة، ربما لم يتعود التعبير عن حبة من فرط شدته و قسوته، بل كانت صرخاتها عندما يضربها أحياناً يسمعها الجميع وهي تستجديه أن يتوقف عن ضربها لكنه لم يتوقف يوما تحت صرخاتها ودموعها بل كان يتوقف عندما يدرك أن ذلك العقاب كافياً لمنعها من أن تعيد ما فعلته.
  كان حب أخوتها و والدتها لا يكفيها لتتغلب على قسوة والدها، وكانت دائماً تحس بعطشها الشديد للحب والحنان، و ليد تحنو عليها ولسان يقول لها كلمات رقيقة تطيب خاطرها وتشعرها بالسعادة، كانت صورته دائماً ما تملاء ذلك الفراغ الي ترعرع معها منذ الصغر وكانت كلما تذكرته نست تلك اللحظات الحزينة مع والدها القاسي وكانت تتمنى أن تمتلك له صورةً تحملها معها أينما ذهبت وتنام ليلاً بعد أن تقبلها وتضعها تحت وسادتها، لكنها كانت دائما تفكر أنها يوماً ما ستحظى بها وكان الأمل يعطيها صبراً يساعدها على التغلب  على كل ذلك الشوق.
        لقد مر اليوم شهر منذ تلك اللحظات وهو لا يزال يقرأ الرسالة كل ليله ليضعها تحت الوسادة وينام علها تأتي في المنام لتقرأ ما خطت يده، حتى انه كان ينام في غير أوقات النوم
عله يلقها في حلم جميل ويسلمها رسالته الأولى، مع أنها كانت تأتيه في المنام وفي اليقضه، فيكف لمن اخترقت سهام عينيها فؤاده أن لا يراها في قطرات الماء و في النجوم وفي وجه القمر وفي كل الوجوه حوله وكيفما تلفت حتى كان يجهش بالبكاء أحياناً مما كان يحس به.
      لقد تغير وصار الشرود رفيقه، حتى بلغ الخوف من أمه عليه أشده، ولم تك تلمحه حتى تسأله عما أصابه، بني ما بك وما الذي أصابك، لا أراك إلا شارد الدهن، لكنها لو علمت ما به لعذرته، فلم تعد الحياة كما كانت، اليوم لم يعد وحيدا فهناك طيفٌ يرافقه أينما دهب، ولم يعد لغيره وجود، كان يلوم القدر الذي قرر أن يجمعهما يوم الرحيل ويحس بالنقمة لأنه أمضى ثلاث سنوات إلى جانبها لا يحس بتلك النسمة التى كانت تحلق حوله والآن بعد أن أنقضت أيام دراستهما معاً جاء اللقاء.
     إسراء. نعم، أنها هي مفتاح الحل، كان وقع قدميه عندما قفز من سريره مسموعا من خارج غرفته، خطرت بباله، وهو يقرأ الرسالة للمرة الألف حتى أنها تكاد تصبح مخطوطة لكثره ما قرأها وخبأها، ابنة عمته تصغره سناً ويسبقها بعام في الدراسة، ولكن هل تعرفها؟ وهل سأمتلك الجرأة لأطلب منها مثل هذا الطلب؟ وكيف أستطيع أن أراها وحدها؟ جدار التقاليد كان هو الحاجز الأكبر.
     سرعان ما خارت قواه من خيبة الأمل، وعاد ليستلقى على سريره ليعيد التفكير في نفس الدائرة من جديد، كانت غرفته الكبيرة تضيق عليه حتى تضيق الأنفاس في صدره، لكنه أخيراً قرر أنه لن يتراجع، فذالك الدافع الذي كان ورائه كان أقوى من أن يسمح له بالتراجع وأمضى ليلته يتقلب على فراشه ينتظر بزوغ الفجر وكانت كسابقاتها ليلة طويلة مقيتة لم تمر ببساطة.
في اليوم التالي توجه لمنزل عمته بحجة أنه لم يرها منذ فترة طويلة طرق الباب طرقاتٍ خفيفة فالوقت لا يزال باكراً قليلا ولكن ما ألم به يجعله يسرع بالمجئ وفتح الباب .
كان احمد أبن عمته هو من أستقبله بتحية الصباح وبعض العبارات الساخرة من مجيئه في هذا الوقت الباكر ولم يخفي استغرابه.
-       تفضل بالدخول.
-       شكرا ، أنا أسف ربما كان الوقت باكراً.
-       هل حدث شئ ما؟.
-       لا، فقط إستيقضت باكرا فأردت المرور للسلام ولأرى عمتى.
-       تراها أم توقضها، قالها احمد بضحكة ساخرة تم أردف: هل هناك من يزور الآخرين مع بزوغ الفجر!!.
-       آسف، لكني كنت أشعر ببعض الضيق وأردت الخروج من المنزل، عموما سأعود لاحقاً.
   قالها وأنسحب بعد أن غزت الحمرة وجهه، ومع أن احمد حاول أن يوقفه لكنه أصر على الرحيل بعد أن أعتذر مرات ومرات وأثناء حديثهما السريع أخبره احمد بأنه سيذهب مع أمه للتسوق لاحقاً وهنا أحس بأن الفرصة قد حانت وأنه لربما يستطيع أن يتحدث مع أسراء هاتفياً ليطلب منها المجئ لاحقاً.
       عاد إلى بيته على عجل وتفاجأ بوالدته أمامه تتساءل أين كان في هدا الصباح الباكر، فلم يجب سوى ببضع كلمات بصوتٍ خافت لم تفهم منها أمه أي شئ، ودخل سريعاً لغرفته واستلقى منتظرا مرور الوقت ليتصل بمنزل عمته.
         رن جرس الهاتف في المنزل، لم يكن هناك من يرد وبعد عدة محاولات كانت هناك خطوات قادمة باتجاه الهاتف الذي لم يتوقف جرسه مطلقا، كانت إسراء مستغرقة في النوم ولكن جرس الهاتف المتواصل أيقضها من سباتها العميق،ردت بصوت خافت بسبب النعاس، وبادرها بإعتدار كالعادة فرغم مرور الوقت لا يزال الوقت باكراً قليلاً خاصة لطالبة في أيام عطلتها وتريد أن تنتقم من الفراش.
       بعد سلام وكلام وسؤال عن الحال، تردد في مصارحتها لكنه أحس بأن الفرص قد لا تتكرر كثيراً، طلب منها الحضور الي منزلهم لأنه يريدها في أمر هام وخطير، ورغم أن كلامه أثار فضولها لأنها المرة الأولى التي يتحدث معها بهذا الشكل، لكنها وافقت على عجل وأنهت المكالمة لتعود سريعا إلى فراشها فالنعاس كان أقوى من الفضول، وبعد أن خطى الخطوة الأولى أصبح الأمر أكتر ضراوة عليه، فمتى تستطيع إسراء أن تجد العذر لتزورهم وكيف سيطلب منها مثل هذا الطلب وهل ستوافق أم أنها قد تنظر إليه نظره تحمل الكثير من الدهشة لمثل هذه الجرأة أو الوقاحة فهو لا يعلم ما هي ردة الفعل التي تنتظره ومع كل هذه الأسئلة ازدادت الحيرة وزاد الشوق الذي يزيد يوما عن يوم بدون أي سبب ودونما إرادة وكأنها سلبته عقله وأرادته.
      أنتصف النهار ولازال لم ينم بعد، كان يفكر ما الذي إصابة، ما هذه الأحاسيس وما هذه التصرفات التي لم يجرؤ على التفكير فيها يوماً، ومع محاولته النوم ربما يستطيع الهروب من تلك الأفكار التي تكاد تقتله إستيقضت إسراء بعد أن نالت قسطا وافياً من النوم ومع صوت الماء وهو يغلي في إبريق القهوة تذكرت أنه اتصل بها وحاولت أن تتذكر تفاصيل المكالمة وكأنه كان حلماً لم تعد تذكر منه إلا القليل، وبعد أول رشفات القهوة يبدو أن التفاصيل بدت تلوح في مخيلتها وتظهر الصورة أكتر صفاءً لكن حيرتها زادت لأنه تجهل السبب الذي جعله يطلبها وكأي فتاة قد بلغ منها الفضول مبلغاً لم يترك لها فرصةً لتؤجل الأمر أكثر.
        كان لا يزال يتقلب في فراشة وكلما طرق أحد الباب أطل برأسه من خلف باب حجرته ليرى هل أسراء هي الطارق ويعود منكساً رأسه كلما تأكد أنها لم تأتي بعد، وكان حزنه لأنه لم تأتي مختلطاً بشعور الراحة والفرح فخوفه من مقابلتها وطلب مثل هدا الطلب منها أكبر من خوفه من عدم مجيئها، وأقترب الليل وبدأ اليأس يتملكه وأفكار كثيرة تراوده وهاهو يخرج الرسالة مرة أخرى ليقرأها ويعيدها الي مكانها مرة أخرى، وقبيل الغروب كان التعب والنعاس قد بلغ منه مقتلا وبدأ يترنح في وقوفه وقرر أن ينام فعاد الي غرفته وأطفأ النور واستلقى على فراشه، وما كاد أن يغمض عينية حتى طرق الباب، لكنها ليست إسراء فلن يسمح لها أهلها أن تأتي في مثل هذا الوقت وقرر أن لا يقوم من مكانة من فرط تعبه، وبعد لحظات كان يسمع ضحكات عمته تملاء المكان وهي تحادث والدته وتسلم عليها.
         لكنه الآن أكتر خوفاً وقلقاً من أي وقت آخر، فإن كانت عمته وأبنتها إسراء في الخارج فكيف سيتصرف ماذا سيقول، هل يجرؤ على أن يقول لها بأنها قد أحب ريم وأنه يريد مساعدتها لإيصال رسالته الأولى، وماد سترد عليه، الأسئلة نفسها كان يطرحها مرات ومرات ولم يحصل على أجابه، فحاول أن يستجمع قوته ويخرج.
         تلقته عمته بعبارات اللوم والعتاب لمقاطعته لها ولعدم زيارتهم منذ مدة طويلة، فاستلمت أمه زمام الأمور لتتعلل بأنه كان منشغلاً بدراسته، وكانتا لا تعلمان بأنه كان مع خيوط الفجر الأولى يطرق بابهم، كان ملتزماً الصمت كما كان طوال حياته، لكنه لم يكن كصمته السابق بل كان مرغما بسبب الخوف الذي يتملكه ولأن عمته لم تبدي أي خوف أو ممانعة حينما طلبت منه إسراء أن يخرجا إلى الحديقة ويريها تلك الفرس التي يملكونها، فأحس بارتياح لان إسراء بادرت بإيجاد حلٍ لم يكن ليصل أليه أبداً وكان من الممكن أن لا يخرج من صمته حتى تنتهي زيارة عمته وأبنتها.
كان صهيل الفرس عالياً وكان يشق الصمت الذي سكن المكان، وبعد تلك اللحظات الصامتة، استلمت إسراء زمام المبادرة مرة أخرى لتزيح عن كاهله تقل المبادرة وكان يزداد إعجابه بها وهي تخطو خطوة تلو الأخرى لتوفر عليه الكثير من التعب والإحراج.


-       أنت لا تعرف الفضول والقلق الذي تملكني مند مكالمتك.
-       لماذا؟
-       لا أعلم لكنها المرة الأولى وينتابني إحساس غريب.
-       في الحقيقة أريد مساعدتك.
-       في ما؟
-       أمر مهم بالنسبة لي لكني لا أعلم من أين أبدأ.
لم تجب عليه إسراء بشئ وكانت تحس بالإحراج الذي أعلنت عنه تلك الحمرة التي غزت وجهه فلم تشأ أن تصر أو تلح عليه والتزمت الصمت وهي تداعب رقبة الفرس، وبعد لحظات صامته استجمع شجاعته الضائعة مند أحس بذلك الإحساس، والتي بات يقضي أغلب أيامه الأخيرة يحاول جمعها .
-       هل تعرفين ريم؟
-       نعم أنه الغزال أليس كذلك؟
كانت إجابتها لا تخلو من مكر، فهي لا تعلم عن أي ريم هو يتحدث لكنها تعلم بأنها ليست غزالاً.
-       لا
-       إذاً
عاد إلى الوراء خطوتين وأشاح بوجهه قليلاً عن عينيها اللتان كانتا تعرضان فضولاً ومكراً ولم يستطيع النطق  مجدداً .
-       عن أي ريم تتحدث أن لا أعلم
-       ريم ريم تلك الفتاه التي كانت تدرس معي في المدرسة.
وهنا ابتسمت ابتسامة لا تخلو من الدهاء وبدا شعور الارتياح واضحاً على ملامحها فقد بدأت تفهم تلك التصرفات وهذا الخجل الذي يدور من حولها.
-       لا أنا لا أعرفها
-       حسنا، أنسي الأمر!
لقد أحست بأن فرصتها لفهم ما يدور بدأت تتبخر فحاولت أن تنقد الموقف وقالت له نعم أعرفها أليست ريم التي أغرقتك بالماء يوم الرحلة وأطلقت ضحكةً عالية حتى أن الفرس قد تخبطت في مكانها.
كانت علامات الفرح ظاهره على وجهها فهي لم تملك يوماً من الجرأة ما يكفيها لتضعه في مثل هذا الموقف وتستمتع بالنيل من رزانته وقوته وكان هذا الشعور مختلطاً باستغراب أكبر فهل هدا هو أبن خالها الذي كان يستعرض قوته عبر صمته هل هذا هو؟
لكنه كان كطفلٍ صغير، حائراً خائفاً مرتبكاً، لم يكن ينقصه إلا أن يطلق صرخاته باكياً باحتاً عن أمه التي تركته.
-       لا أعلم من علمك هذه العادة اللعينة
      كان ردها على إشعاله سيجارة، لكنه لم يجب على سؤالها، بل قال لها بأنه يريد أن يرسل معها رسالة إلى ريم، فقالت له أنها لا تعرفها ولا تربطها بها أي صداقة، وقد لا تستطيع أن تساعده، لكنها تراجعت ووعدته بالمحاولة بعد أن أحست بالشفقة على هذا العاشق الذي كانت ملامحه تدل على انفطار قلبه، وقررت أن تكون الملاك الذي ينتشله ويجمعه بأميرته الموعودة، فذهب بخطى متسارعة إلى غرفته ليحضر لها الرسالة وأنشغل قليلاً في لفها ووضعها في قالب جميل وخرج من غرفته ليجدها عادت الي أمه بعد أن ملت انتظاره، وكانت حيرته في الطريقة التي سيعطيها الرسالة تثير المزيد من الشعور بالانتصار داخلها، ولم تخف بعض الشماتة عبر مراقبته وهو يقلب عينيه بينها وبين أمه وعمته وكأن جثثه فقط بينهم ولكن العقل والقلب غادرا سابقاً.
   تأخرت إسراء عن أمها قليلا أتناء خروجهما وأخذتها منه سرا دون أن ينتبه أحد وغادرت المنزل واستدار وأنسل إلى غرفته لينام نوماً هانئا بعد أن قام بالخطوة الأولى.

كتبها: عبدالرزاق فرج
يتبع