عندما يأبى القدر 2





(2)

    التقت إسراء بريم وأخبرتها عن أمر تلك الرسالة، فأخذتها ريم ومزقتها دون أن تقرأها وقامت بطرد إسراء بطريقه تحمل بعض الأدب بعد أن حملتها بالتهديد والوعيد بأنها ستخبر والدها إن تكرر مثل هذا الأمر مرة أخرى، وعادت إسراء وصبت جام غضبها عليه بعد أن أحست بالإهانه بسبب طرد ريم لها.
     كان العرق يتصبب من جبينه عندما أفاق، لقد كان كابوسا،ً لكنه كان خوفاً جديداً ألم به، فماذا لو تحقق هذا الكابوس وماذا لو كنت قد أخطأت الفهم وماذا وماذا وماذا؟ لم يستطع الإجابة وكان متوترا جداً فأكمل ليلته يحتسي القهوة ويدخن السجائر واحدة تلو الأخرى وكان دخان سجائره يصعد الي السماء مختلطاً بهواجسه وخوفه من يوم الغد ومع شروق الشمس عاد للنوم من دون أن يشعر وغط في سبات عميق.  
     كانت تلك المشاعر بدأت تقتله فهو لم يدق طعم الحب يوماً وأصبح اليوم صريع تلك العيون الساحرة، كان يجد صعوبة كبيره في أن يصف تلك المشاعر التي يحسها وكيف أنها تملكت منه، حتى أنه لم يعد يرى سوى صورة ريم تنعكس على كل شئ، وها قد أصبح يقرأ الشعر ويتذوقه وازدحمت أدراج مكتبته بروايات العشق وقصص العشاق، كان يضحك أحياناً عندما يرى أحد الرفوف، وهو يعج بقصص لم يؤمن بها يوماً لكنه تعلم اليوم حكمةً جديدة، أنك لا تؤمن بالحب حتى تحب، ولا تستطيع وصفه وإن حاولت مراراً فهو كالهواء حين يتدفق في قلبك لا يحمل لوناً ولا طعماً و لا شكلاً لكن إحساس مرهف يملك تأثيراً ساحراً ، إنه كالزهرة التي لا يفوح أريجها إلا بتساقط قطرات الدموع عليها ولا يستطيع أحد أن يقطف الورد ويستمتع بالنظر إليه ألا بالمرور عبر أشواكه المؤلمة، وبقدر الألم والدموع، فهناك دائماً سعادة لا توصف يخلفها في قلوب العشاق، تلك القلوب التي تشبه زورقا صغيراً تلاطمه أمواج المحيط الغاضبة، وهو يحاول أن يبقى طافيا حياً، والأمواج لا تنفك تعيد محاولاتها لإغراقه ليكون جزءً ميتاً في القاع، نعم هذا هو الحب، الحب الذي يجعل الأرض الفسيحة تضيق بالعاشق حتى يشعر بأنها حلقة صغيرة لا تتعدى خاتماً في الأصبع تضغط عليه لتفجر الدم في عروقه.

      كان الشوق والخوف يختلجان ريم أيضاً، فيحرمانها النوم دوماً، مرت عليها سنوات مند أحبته، لكنها لم تحس بمثل هذا القلق الذي يعتريها هذه الأيام فبعد إحساسها بأنه قد أنتبه لها أخيراً، وأحست من نضراته بأنه لابد وأن يكون قد أحبها، لم تصل إلى الحقيقة، فهل أحبها فعلا وهل تستطيع أن تراه مجدداً، هي لا تريد أن تعيش عذاباً جديد بعد ما مرت به، كانت سنوات طوال عليها وهي تحاول لفت انتباهه تراقبه كل يوم مع بداية يومها الدراسي ولا تشيح عنه بعينيها إلا عند الوداع، تتذكر كما كانت تشعر بالغيرة عندما تراه يحاذت فتاة أخرى، رغم أنها كانت مجرد محادثات زملاء، إلا أنها كانت في كل مرة تتمنى لو استطاعت أن تجذبها من يدها وتقول لها ابتعدي عنه، ولا تحادثيه مطلقاً، أنه حبيبي وحدي ولا أحب أن تشاركني فيه فتاة أخرى ولو بمجرد نظرة، اليوم تتذكر أيضاً كم تحرشت به مرات ومرات ليحس بها وكانت ردوده الباردة تجعل ليلها طويلا مليئاً بدموعها.
      كان تتعجب دوما من القدر الذي أراد أن يجمعهما في أخر أيامهما معاً، فتفترق عنه بعد أن التقت به في اليوم نفسه، لكني سأحاول الدراسة معه في نفس قسمة في الجامعة لو استطاعت، كانت هذه هي الخطوة القادمة التي أصرت على القيام بها، حتى وإن لم تحب ما يدرس فيكفي أنها تحبه، ولا حب يعلو على حبها له، ويكفيها للتضحية بكل شئ لكي تكون بقربة وتقر عينها برؤيته كل يوم، ولكنها ثلاث أشهر أخرى أمامها ليبدء العام الدراسي الجديد هذا أذا قدر لهما النجاح معاَ وخافت أن يحول القدر بينهما مجدداً.

-       اتصلت أيمان لتخبرني بأن النتائج ستعلن اليوم يا أمي.
-       حسناً سأطلب من أحمد الذهاب لرؤيتها.
-       لكن أيمان ستأتي لنذهب معاً.
-       لا سيذهب احمد، لن أسمح لك بالخروج.
-       لكني وعدت إيمان بالذهاب معها، أرجوك أريد الذهاب.
-       حسناً، لكن لا تتأخري.
      تلك هي حيلة إسراء لتستطيع الخروج من المنزل، وها قد تعلمت أن تكذب بسببه، لكنها كانت تريد مساعدته بأي طريقة لتخفف عنه وطأة الحب الذي شاهدته يعصف بكيانه ويكاد يقتله.
     كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحاً عندما وصلت إسراء لمنزل إيمان لتسألها إن كانت تعرف منزل ريم، ولتبلغها بكذبتها كي لا تفتضح أمها الأمر في حال حدث شئ وبعد وقت ليس بالقصير غادرت إسراء منزل أيمان لمنزل ريم الذي لم يكن بعيداً .
وصلت إسراء وطرقت الباب مرات ومرات ولم يجب أحد وبعد حين كان صوت أحدهم قادماً وفتح الباب، كانت جدة ريم العجوز هي من فتح الباب وأخبرتها بأنه لا يوجد أحد في المنزل فريم وعائلتها في الخارج لكنهم لن يتأخروا، ولان إسراء لن تستطيع الخروج من المنزل مرة أخرى بسهولة طلبت أن تنتظرها ورحبت الجدة بها وأدخلتها.
          شعرت إسراء بالملل الشديد لأن السيدة العجوز تعاني من مشاكل في السمع وكان عليها أن تصرخ عالياً لتستطيع التحدث معها، ويبدو أن ريم قد عادت لان أصوات الباب يفتح ويقفل وبعض الضجيج بدا واضحاً حيت تجلسان، وقامت الجدة من مكانها، وأخبرت ريم بأن صديقتها إسراء تنظرها فتعجبت ريم لانها لا تملك صديقة باسم إسراء لكنها جاءت على عجل إلى غرفة الضيوف ووجدت إسراء أمامها.
      كان صدمة ريم قويةً جدا عندما رأتها، فهي لا تعرفها لكنها تعلم بأنها أبنه عمته، رحبت بها وعانقتها عناقاً حاراً، لقد كانت تعانقه فيها، وتحس به من خلالها، وقد أصبحت السعادة تغمر وجهها لان هذه الزيارة من إسراء لابد وأنها تحمل لها ما يطفئ لهيب الشوق.
       جلست معها بعد أن استلمت منها الرسالة، ومر الوقت دون أن تشعر إسراء فقد كانت تستمع لما تقوله ريم عن هذا العالم، وتحكي لها تجربتها وكانت تلك القصص جديدة عليها هي أيضاً ولم تمر بمثل هذه التجربة وكانت ريم تقص عليها و هي تنظر للأعلى وترتسم على وجهها ابتسامة كانت دليلاً واضحاً على تلك السعادة التي تحس بها، وتحدثا مطولا عن حادثة الشاطئ التي حدثت دونما أي تخطيط، لكنه كان إلهاماً قادها لتفعل ما تفعل، وقطع انسجامها انتفاضة إسراء من مكانها، فقد انتبهت أن الساعة تقارب الواحدة ظهراً وأنها قد تجاوزت التأخير بكثير، ودعتها وغادرت على عجل ولم تستطيع العودة الي البيت إلا بعد أن مرت على إيمان وعادت برفقتها الي المنزل لتنجو من عقاب والدتها.
      كان الجو جميلا ذلك اليوم، لكنه لم يكن بالنسبة له إلا مجرد وقت طويل كان مثل الساعة يعد الزمن بالتواني، وينتظر إسراء مند أن أستيقظ من نومه الذي لم يكن عميقا بتاتاً، طرقت والدته الباب ودخلت تطمئن عليه وألحت في السؤال لكنه التزم الصمت إلا من إجابات لم تكن مقنعة لوالدته، ولكن وبعد كل محاولاتها لم تحصل منه على جواب يشفى خوفها عليه ولم تزل الكثير من الأسئلة بداخلها عن حال أبنها الذي أنقلب، فثارة تقول لنفسها أنه مريض، لتعود مرة أخرى بفكرة أنه لربما يكون هناك ما يزعجه ولكن ماذا سيكون فوالده لا يزال مسافراً ولم يعد فليس في المنزل سواهما حتى أن أخواته لم يأتين لزيارتهم منذ مدة، لكنها لم تكن ليخطر ببالها أن أبنها أًصبح عاشقاً، أخيراً همت بالنهوض لتتركه وحده كما طلب منها، ولكنها وهي تقفل باب حجرته خطر ببالها أن تطلب من مريم أن تتحدث معه علها تستطيع اقتلاع سر أبنها، فليس هناك من يستطيع التأثير عليه أكتر منها لأنها كانت الأقرب إليه قبل أن تتزوج وفعلا اتجهت صوب الهاتف واتصلت بها وأخبرتها بكل شئ ولأن مريم أصيبت ببعض الخوف أبلغتها بأنها ستأتي في الصباح الباكر، لتحاول أن ترى ما الأمر الذي جعل أخاها يحجم عن الطعام والكلام .
        خيم سكون الليل وكانت الساعة تقترب من منتصف الليل وفي الوقت الذي كان يجلس فيه خارجاً يتأمل النجوم في السماء ويتمنى لو تخبره إحداها عن ريم، أو أن يعكس له القمر وجهها الجميل، لقد اختلط سكون الليل وجماله، بتلك المشاعر التي تلتهب في صدره، وفي تلك اللحظات كانت ريم قد قرأت الرسالة عشرات المرات، ولم تكن تشعر بالملل وهي تعيد تلك السطور، كنت تستنشق رائحتها مرات ومرات وتضمها الي صدرها وتعيد قرأتها وتتأمل تلك الكلمة المكتوبة بخطة الجميل "أحبك"، ورغم أن الرسالة كان ينقصها الكثير من الترتيب، فقد كانت تعرف أنها البداية فقط، وكان يكفيها أن ترى تلك الكلمة على ورقه بيضاء لا تحتوي غيرها، فرغم قله حروفها فإنها تكفي بإيجاز عن كل الكلام، وأي كلام قد يعبر عن ما تحس به أكتر منها، وكانت تكفيها لتنام نوماً عميقا افتقدته مند سنوات بعد أن وضعتها تحت وسادتها غلبها النعاس ولازالت الابتسامة مرسومة على وجهها.
    هذه الليلة كان هذا الملاك البرئ ينام تحت الضوء الخافت، وابتسامتها تحكي قصتها، يراودها حلم بأنها فراشةً ذات أجنحة قرمزية،تعكس ضوء القمر ، تحلق بين الأزهار، وتحكي لها عن حبها، وما أروع أن تطير بلا قيود، تطير والأمل يدفعك لأعلى لتحط على براعم الورود الدافئة فتحضنك زهره الياسمين و تسحب عليك براعمها لتنام نومه هانئة، بنما صوت العصافير يعزف لحن الحب في تناغم، وكان هو لا يزال يشخص ببصره عاليا محدقا بعيون لفها السواد، وبدا عليها الأرق واضحاً، تختلط عليه مشاعره فيبكي تارة ويبتسم تارة أخرى ومع ظهور أول خطوط الصباح عاد إلى غرفته يجر أرجله جراً من التعب واستلقى على فراشة كأنه جثه هامدة.
    في اليوم التالي كان يرن جرس الهاتف وكلما ما أجاب احمد يقفل أحدهم الخط في وجهه، ومع ارتفاع أصوات احمد ببعض العبارات عن هذه التصرفات الغير لائقة، كانت إسراء تعلم بأنه هو يحاول أن يعلم ما الذي حدث بينها وبين ريم، وكانت كعادتها تشعر بالغبطة وهى تراه يتخبط في تصرفاته ويغلى على نار الحب، وعند خروج احمد من المنزل أسرعت للهاتف بعد أن غافلت والدتها ولم تكد تطلبه حتى رد وكأنه قد ربط الهاتف إلى معصمه، واستفتحت معه ببعض العبارات الساخرة والتي قبلها على مضض، وهو يواسي نفسه بأن ريم تستحق هذا الصبر، وأبلغته إسراء بما حصل وكان يلح في الأسئلة حتى أنها لم تستطيع الإجابة، لأنه لم يترك لها الوقت لتقول له أي تفصيل، وأخيرا أخبرته بأن عليها أن تنهي تلك المكالمة لان أمها آتيه، ووعدته بأن تحاول أن تأتي لزيارته عندما تستطيع أن تحظى بفرصه، ولم يكد ينهى المكالمة حتى رن جرس الهاتف من جديد وعندما رفع السماعة وجدها مريم تقول بأنها لم تستطيع المجئ بسبب انشغال زوجها وأنها ستأتي ليلاً، سألها عن سبب مجيئها فلم تجبه وألحت عليه لكي يبقى ليلاً في المنزل لانها تريده، رغم أنها لم تحس بأي شئ غريب في كلامه، فقد بدت السعادة واضحة عليه لكنها لا تعلم بأن روحه قد عادت لتوها لهدا الجسد بأن سقته إسراء ترياق الحياة من جديد.
      كان صوته يحدث جلبة عالية في المنزل وهو ينادي أمه، وما إن أجابته حتى قال لها بأن مريم ستأتي ليلاً، لكنها لم تكن تستمع لحديثه بل كانت عيناها تحدقان في وجهه وفي تلك الابتسامة التي عادت بعد غياب، شعرت بالارتياح وهي تراه يعود متهللاً مبتسماً وقال لها بأنه جائع جداً وأنه لا يستطيع أن ينتظر الغداء ولم يكن في حاجه لان يتوسل لها لتعد له ما يأكله ريثما يحل وقت غدائهما، فقد كانت قد وصلت إلى المطبخ لتعد له ما يأكله بعد أيامٍ من الجوع، وكان استغرابها ودهشتها قد وصلا ذروتهما وهي تراه يأكل بنهم ولم تمضي لحظات حتى أنهى كل ما أمامه، وكانت سعيدة وتمتم بحمد الله لان أبنها قد عاد من جديد.
        كان يشعر بسعادة لم يعدها وكان يحس بأنها قد ملك الدنيا، وبعد أن تناول الغداء مع أمه التي لم تأكل من شدة فرحتها أخبرها بأنه يريد النوم ولا يريد أن يوقضه أحد، كانت تلك لحظات جميله من حياته، ولم يشعر بما حوله أبداً حتى أفاق على طرقات الباب وسمع صوت مريم تناديه، فقام وهو يجيبها بأنه سيأتي بعد لحظات.
-       ما الذي حصل؟
-       لا شئ.
-       لقد لاحظت اليوم أنه قد بدأ يعود لطبيعته.
-       نعم أنا أيضاً لم ألاحظ أي شئ عليه سوى أنه قد فقد بعض وزنه وأن أثر التعب بدا واضحاً عليه.
-       الحمد لله اليوم أراه أفضل بكثير لكني لازلت خائفة عليه.
-       لا تقلقي يا أماه سيكون كل شئ على ما يرام بإذن الله.
-       إلى اللقاء وسأعود قريبا لأطمئن عليه .
-       إلى اللقاء.
     هكذا انتهت زيارة أخته دون أن تصل إلى سبب هذا التقلب في مزاجه وحياته، لكن ما حصل عليه اليوم من أخبار سارة هي من جعلته يسترد الكثير من نشاطه، ولم يترك لها مجالاً لتسأل عن شئ فلم يتركها طيلة فترة بقائها في منزلهم كما كانت تشاهده وهو يجول هنا وهناك حاملاً أبنها الصغير على كتفيه يمازحه ويلاعبه ويغني له أيضاً كما أنه تناول معم العشاء وكانت شهيته تبدو حاضرة وبقوة .
      بعد رحيل مريم عاد سريعا لينام بعد أن بقى مع أمه فتره ليست بالطويلة، أقفل الباب وأطفأ النور واستلقى وهو يفكر بأن القدر بدأ يساعده وبينما كانت تلك الأفكار تراوده غط من جديد في سبات عميق، وكان له حلم وحيد يجول معه ليلاً ونهاراً .



كتبها: عبدالرزاق فرج
يتبع